لا يجوز الاستفتاء على القواعد الشرعية القطعية








قواعد الميراث في الشريعة الإسلامية أحكام قطعية وثابتة بنصوص قرآنية لا يجوز لأحد ـ أياً كان ـ أن يغيرها أو يبدلها، لا حاكمًا ولا محكومًا، ولا عبر استفتاء الأغلبية. فالحاكم في الإسلام مقيد بشرع الله، وليس مفوضًا أن يشرّع من عند نفسه، ولا يجوز له تحريف أو تعطيل أحكام الله القطعية، التي لا تحتمل الاجتهاد أو التغيير.

وقد قال الله تعالى في محكم كتابه:

"تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ" [النساء: 13-14].

وقد حاول المدعو "الهلالي" أن يلبس الحق بالباطل حين ادعى أن الحاكم إن أراد تغيير أحكام الميراث فله ذلك، وكأن الحاكم في الشريعة إله يُشرّع من دون الله! وهذا افتراء بيّن، إذ أن الحاكم في الشريعة الإسلامية عبدٌ لله، مقيَّد بحكمه، خاضع لأمره ونهيه، وليس له أن يغير ما أنزله الله ولا أن يشرّع خلافه.

إن التصالح على أنصبة الميراث يكون بين الورثة أنفسهم وبعد أن يتم تقسيم التركة وفق أحكام الشريعة، أما أن يُفرَض عليهم نظام يخالف الشريعة ابتداءً بحجة أنهم يمكن أن يتصالحوا لاحقًا، فهذا قلب للمفاهيم. وكأننا نمنع العدالة ليتم التصالح على جزء منها! وهذا ما لا يقبله عقل ولا شرع.

وهنا يجب التنبيه إلى أن الشريعة لم تترك توزيع التركة لاجتهاد الأفراد أو رغباتهم الشخصية، بل قيدت حتى الوصية نفسها، فجعلت الحد الأقصى لها الثلث فقط، ولا يجوز أن يوصي الإنسان بأكثر من ثلث ماله بعد وفاته، ولو كان ذلك برضاه.

وقد ورد في الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنه قال للنبي ﷺ:

"أَتُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قال: لا. قُلتُ: فَالشَّطْرُ؟ قال: لا. قُلتُ: فَالثُّلُثُ؟ قال: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ."
[رواه البخاري ومسلم]

أما فيما يتعلق بدعواه بشأن أن يقوم الأب بتوزيع تركته على بناته أثناء حياته فهذا لا يجوز أيضا، فالشريعة لم تبح حتى للأب أن يخص بعض أبنائه بعطية دون الآخرين في حياته، وإذا فعل ذلك كان ظلمًا وجورًا، وللأبناء الآخرين الحق في الطعن في عطيته وطلب إلغائها والدليل على ذلك ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به إلى رسول الله ﷺ وقال:

"إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي."
فقال ﷺ: "أكل ولدك نحلت مثل هذا؟"
قال: لا.
قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"،
قال: فرجع أبي فرد تلك النحلة.
[رواه البخاري ومسلم]

وهذا الحديث الصحيح يدل على أن التمييز بين الأولاد في العطايا ظلمٌ صريح، فكيف بمن يسوغ أن يكون هذا التمييز بحكم قانوني عام يصدره الحاكم ويجعل له قوة الإلزام؟!

كما أن من القواعد الشرعية الأصولية:

"لا اجتهاد مع النص، ولا اجتهاد في مورد النص القطعي"،
فإذا جاءت النصوص الصريحة والقطعية من الكتاب والسنة، فلا اجتهاد بعدها ولا تبديل، ولا مجال لتغييرها تحت أي غطاء سياسي أو اجتماعي أو ثقافي.

وبالتالي، فإن دعوى الهلالي في هذا الباب أيضًا دعوى باطلة ومعيبة، وتدل على جهل واضح بأحكام الشريعة، فضلًا عن انعدام الأمانة العلمية، وغياب الموضوعية، وتردي الكفاءة. وليس غريبًا أن تصدر مثل هذه المزاعم الملتوية من شخص يعمد إلى إثارة الجدل على حساب النصوص القطعية.

أما القول إن الحاكم يمكنه أن يصدر استفتاء لتعديل أحكام الميراث، فهو شبيه بمن يدعو أن يستفتي الناس لفرض مساواة في أرباح شركة بين الشركاء بغض النظر عن حصصهم. هل يقبل عاقل بهذا؟ أن يُعطى صاحب النصف نفس أرباح صاحب 10%؟! وإذا اعترض أحدهم قيل له: يمكنك أن تتصالح لاحقًا! هذا العبث بعينه.

والأدهى من ذلك أن الهلالي يعلم ـ ويتعمد إخفاء الحقيقة ـ أن إصدار قانون بهذا الشكل يجعل القواعد الوضعية هي الأصل التي يطبقها القضاء، لا الشريعة، وبالتالي يُقصى شرع الله ويُهجر، ويصبح التحاكم إلى غير ما أنزل الله، وهو من أعظم أبواب الردة والفسق والظلم.

وقد قال الله تعالى:

  • "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" [المائدة: 44]

  • "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [المائدة: 45]

  • "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [المائدة: 47]

وقد أجمع العلماء على أن هذه الآيات تشمل من رفض حكم الله واستبدله بغيره، أو زعم أن غيره أولى أو أفضل أو أعدل، وهذا لا شك فيه شركٌ في التشريع، يُخرج من الملة إن استحلّه.

أما من الناحية القانونية، فإن الدستور المصري نفسه يُقر مرجعية الشريعة، وينص صراحة على حمايتها، ومنها:

  • المادة (2) من الدستور المصري:

"الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع."

  • المادة (7):

"الأزهر الشريف هو المرجع الأساسي في الشؤون الإسلامية."

كذلك ينص قانون الأحوال الشخصية المصري على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في قضايا الميراث.

وهذا يعني أن أي تشريع يخالف هذه المبادئ الدستورية يُعد باطلاً دستوريًا، ويحق الطعن عليه لمخالفته لنصوص دستورية صريحة تحمي أحكام الشريعة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحكومة السعودية تقتل صحفيا آخر: الصحفي تركي الجاسر

سيرة المحامي إسحاق الجيزاني - مع بعض الذكريات

أسباب إنقلاب الأنظمة العربية على جماعة الإخوان المسلمين