عقيدة القتل السياسي في السعودية: حين يصبح الاتهام بالتطرف رخصة للقتل


عقيدة القتل السياسي في السعودية

حين يصبح الاتهام بالتطرف رخصة للقتل




الوفيات الأخيرة في السجون السعودية أو بعدها بمدة قصيرة لا تبدو مصادفة ولا عفوية، بل تثير تساؤلات جدية حول طبيعتها وأسبابها. الدكتور الإعلامي وليد الهويريني توفي بعد خروجه من السجن بفترة وجيزة، كما حدث من قبل مع الكاتب والإعلامي صالح الشيحي، الذي لم يصمد طويلًا بعد إطلاق سراحه، وكذلك الدكتور عبدالعزيز الزهراني. جميعهم خرجوا من السجن بأجساد منهكة، وفارقوا الحياة في ظروف تكررت بصيغة واحدة: تدهور صحي مفاجئ وغامض، وصمت رسمي مطبق.


في ضوء ذلك، لا يُستبعد أبدًا استخدام مواد سامة كالزرنيخ أو غيره من السموم بطيئة المفعول، التي تُضعف الجسم تدريجيًا وتؤدي إلى الوفاة بعد مدة دون إثارة شبهات مباشرة. هذه الاحتمالات، مع تكرار السيناريو ذاته، تُلقي بظلال ثقيلة على السجون كمواقع محتملة للقتل البطيء، وتستوجب فتح تحقيق دولي نزيه وشامل يكشف ما يجري خلف الأبواب المغلقة.


هذه الوفيات، بالتزامن مع تصاعد خطاب التحريض الرسمي ضد المعارضين، تفتح الباب على مصراعيه لفهم أوسع وأعمق لما يُنفذ تحت عنوان "مكافحة التطرف". فهل بات القتل وسيلة سياسة ممنهجة؟ وهل تصريحات المسؤولين رخصة مفتوحة للتصفية؟ هذه الأسئلة تمثل مدخلًا مهمًا لفهم سياق التصريحات والتصرفات المتلاحقة، والتي لا يمكن فصلها عن واقع الموت الصامت الذي يتكرر بأسماء ووجوه مختلفة.


في الرابع من مايو 2025، أطلق سعود القحطاني، المستشار الإعلامي لولي العهد ويده اليمنى، والذي يعتمد عليه في الملف الأمني الخاص به وبتثبيت حكمه، تصريحًا علنيًا وصف فيه المعارضين بـ"الخوارج"، ودعا إلى قتلهم. لم يكن هذا التصريح حدثًا عابرًا، بل كان امتدادًا مباشرًا لتصريح ولي العهد محمد بن سلمان في برنامج "الليوان"، حين قال إن هناك حديثًا نبوياً يقول: "من تطرف فاقتلوه"، ثم أردف قائلًا: "إن كل من يتبنى فكرًا أو منهجًا متطرفًا يُعد مجرمًا يحاسبه القانون". هذا التطابق في التصريحات لا يمكن فهمه إلا على أنه إعلان عام – غير رسمي شكلاً، لكنه فعلي مضمونًا – باستهداف كل من يُصنَّف ضمن دائرة "المعارضة"، سواء داخل السعودية أو خارجها، وحتى أولئك القابعين في السجون من دون محاكمة أو تهمة واضحة.


إن هذا التوجه ليس نظريًا فحسب، وإنما تمت ترجمته إلى سلسلة من الممارسات الفعلية، بدأ كثير منها بصمت، ثم أصبح الآن أكثر جرأة وعلنية. ولا يمكننا أن ننسى تصريح القحطاني الصادم في 18 أغسطس 2017 حين قال بوضوح إنه سيتم التخلص من أي شخص يرد اسمه في القائمة السوداء "ولو تعلّق بأستار الكعبة". لم تمضِ فترة طويلة على ذلك التصريح حتى تم استدراج الصحفي جمال خاشقجي إلى قنصلية بلاده في إسطنبول، حيث قُتل، وقُطّع، وتم تذويبه في الحمض؛ فحتى اليوم، لا يعرف أحد أين جثمانه.


وغالبًا تم التخلص من جثته بتذويبه في الحمض، كما يظهر ذلك من الأقنعة الغازية التي وُجدت في إحدى المركبات التابعة للقنصلية السعودية، وأيضًا من خلال الكميات الكبيرة من سائل الكلور التي رصدت أعين الصحافة دخولها القنصلية، والتي يمكن تحويلها إلى حمض الهيدروكلوريك – ويُسمى أيضًا "حمض المعدة" – وبجعله عالي التركيز، يمكنه تذويب اللحم والعظام معًا. واليوم، ومع تصريح القحطاني الأخير، يُعاد فتح الباب ذاته: التصفية الجسدية باسم "التطرف".


وإذا ما ألقينا نظرة على سجل الإعدامات، نجد أن السلطات نفذت إعدامات جماعية، ففي يوم واحد فقط أعدمت أكثر من 40 إنسانًا في مناطق متفرقة من البلاد. تجدر الإشارة هنا إلى أن حالات الإعدام زادت بشكل ملحوظ بعد تصريح ولي العهد في برنامج "الليوان" الذي ربط فيه التطرف بضرورة القتل، ما فتح الباب لتنفيذ أحكام الإعدام بتهم غالبًا ما تكون زائفة. وخلال السنوات الأخيرة، نُفذت عشرات أحكام الإعدام الأخرى، كثير منها استند إلى تهم زائفة، في محاكمات تفتقر لأبسط مقومات العدالة. كانت تلك المحاكمات ظلامية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى: اعترافات أُخذت تحت التعذيب، المحامون مُنعوا من أداء واجبهم، وبعضهم سُجن مثل المحامي عبد العزيز الشبيلي، والمحامي محمد البجادي، والمحامي سلطان العجمي، أو تم ترهيبهم لإجبارهم على الانسحاب من قضايا المعتقلين، كما حصل مع المحامي باسم عالم.


لا تمر أيام حتى تأتي الأخبار عن وفيات غامضة في السجون السعودية. ففي 30 أبريل 2025، توفي الدكتور قاسم القثردي الألمعي، الأكاديمي البارز، وبعده بأيام قليلة توفي الدكتور وليد الهويريني، وكلاهما فارق الحياة في ظروف غامضة قبل وبعد تصريح سعود القحطاني الذي أُطلق في 4 مايو من هذا الشهر. وسط صمت رسمي مطبق، يطرح هذا تساؤلات ملحة: هل هي مصادفة؟ أم تنفيذ ممنهج لرؤية مسبقة تجاه "المعارضين"، حتى وإن لم تُوجه إليهم تهم رسمية؟


وعلى صعيد قانوني، لا يوجد في السعودية حتى الآن قانون واضح أو نص تشريعي يعرف من هو "المتطرف فكريًا". هذا الغياب القانوني المتعمَّد يمنح السلطة حرية مطلقة في تصنيف الأفراد حسب ولائهم أو معارضتهم لسياساتها. فكل من لا يتفق مع التوجه الرسمي – سواء كان محافظًا، أو ملحدًا، أو نسويًا، أو ناشطًا سياسيًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا – هو في نظر السلطة "متطرفٌ"، وتُستخدم هذه الصفة تمهيدًا لعقوبات تصل إلى السجن، أو المنع من السفر، أو حتى القتل في حالات معينة.


لو كان هناك تعريف قانوني واضح للتطرف، لكان بالإمكان إسقاط هذا التعريف على الحالات الفردية، واختبار ما إن كانت تنطبق أو لا. فلو قيل إن المتطرف هو من يدعو إلى العنف أو قتل المختلفين، لأمكن تحليل خطب الشخص أو مقالاته؛ فإن وُجد فيها ما يهدد السلم الأهلي، اعتُبر متطرفًا. أما إن لم نجد شيئًا من ذلك، فإن التهمة تنهار قانونًا. والمفارقة أن هذا التعريف – إن طُبّق فعليًا – سيطال تصريحات محمد بن سلمان وسعود القحطاني نفسيهما، إذ إن كليهما دعا بشكل مجرد إلى قتل المعارضين لمجرد وصفهم بـ"المتطرفين"، دون دليل ولا تحديد.


وليس بعيدًا عن ذلك، فقد لوحظ ازديادٌ في عدد الوفيات في صفوف الضباط في كلا القطاعين العسكري والأمني بعد تولي الملك سلمان الحكم في 2015. وخلال خمس سنوات فقط، تم رصد ما يقرب من أكثر من ستمائة حالة وفاة للضباط، بهدوء ومن دون ضجة، ضمن ما أراه استراتيجية لإفراغ القطاعين العسكري والأمني من كل صوت محافظ أو موالٍ للنظام القديم. ولا أشك لحظة أن تحقيقًا احترافيًا محايدًا – إن كُتب له أن يرى النور يومًا – سيكشف عن المزيد من هذه الحالات، وربما ما هو أبعد. إن ذكر هذه المسألة هو للتذكير بأن القتل هو الخيار المفضل لدى محمد بن سلمان للتخلص من كل من يراه يشكل خطرًا على حكمه، بتهمة التطرف، وإن لم يكن الضحية كذلك، وإن كانت أيضًا لا تشكل خطرًا حقيقيًا على حكمه. وهو يستخدم كل الوسائل التي بيده لتنفيذ رغبته في قتلهم ليشعر بالأمان واستتباب حكمه، ولكن ستأتيه الغائلة من حيث يحتسب.


تصريحات القحطاني وابن سلمان ليست مجرد زلات لسان، بل هي إشارات مباشرة وصريحة إلى "نية مبيّتة" بتصفية كل من يعارض التوجهات الجديدة. وما يزيد خطورة الأمر أن هذا التطرف لم يُعرّف قانونيًا، بل بقي معلقًا على معايير السلطة نفسها، كما أن لديهما السلطة والمال بحجم دولة كبيرة لتحقيق رغباتهم الشيطانية الدموية. وتبريرهم لقتل الضحية هو التطرف، أو أنها تشكل خطرًا على عرشهم الهش، كالقَصَب الذي يُخشى أن يشعل فيه عود ثقاب. إنه نهج لا يكتفي بإسكات الصوت المخالف، بل يسعى إلى سحقه تمامًا، ولو تعلقوا باستار الكعبة بحسب تعبير سعود القحطاني الذي كما قال أنه لا يقد من رأسه إنما هو عبد ينفذ ما يأمره به سيداه الملك وولي عهد محمد بن سلمان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحكومة السعودية تقتل صحفيا آخر: الصحفي تركي الجاسر

سيرة المحامي إسحاق الجيزاني - مع بعض الذكريات

أسباب إنقلاب الأنظمة العربية على جماعة الإخوان المسلمين