البدون في السعودية: مواطنون بلا وطن ولا حقوق

 

البدون في السعودية: مواطنون بلا وطن ولا حقوق



"البدون" هو مصطلح يُطلق على فئة من السكان عديمي الجنسية، يعيشون في المملكة العربية السعودية ودول الخليج دون اعتراف قانوني، ولا يملكون بطاقات تعريف أو إقامات نظامية، ما يجعلهم غير مرئيين أمام المؤسسات التعليمية، الصحية، القضائية، والأمنية. وهم محرومون من أبسط حقوق الإنسان، بدءًا من التعليم والعلاج، وصولًا إلى حرية التنقل والعمل والتملك والزواج الموثق.

ويُقدَّر عدد البدون في السعودية بعشرات الآلاف، بينما يُقدَّر عددهم في منطقة الخليج بمئات الآلاف. ولا يُسمح لهم بالتنقل بين المدن إلا بتصاريح، ما يجعلهم عرضة للاستغلال من قبل بعض الوسطاء الذين يبيعونهم تصاريح مزورة مقابل مبالغ طائلة. وهم غالبًا ما يعملون في مهن شاقة لا توفر لهم دخلاً كافيًا، رغم استعدادهم للعمل في أي مجال متاح. غير أن غياب الاعتراف القانوني يحرمهم من أبسط سبل الكرامة المعيشية.

وضع إنساني بالغ القسوة

الوصف الشائع لحال البدون أنهم "أحياء أموات"، وهم كذلك فعلاً؛ يعيشون بأجسادهم في مجتمعاتهم، لكن دون أي اعتراف رسمي بوجودهم. فلا شهادات ميلاد، ولا تعليم نظامي، ولا علاج صحي مكفول، ولا زواج قانوني موثق، ولا حرية في التنقل أو التقاضي أمام المحاكم.

وقد أدى هذا العزل الاجتماعي إلى ظهور حالات مأساوية. ففي بعض القرى النائية التي يسكنها البدون، يُبلغ عن زواج محارم نتيجة الجهل والعزلة وعدم القدرة على التوثيق الرسمي. وهذه الحالات هي نتاج طبيعي للحرمان من الحق في التعليم والخدمات الاجتماعية، وليس مسؤولية الأفراد بقدر ما هي مسؤولية النظام الذي تخلّى عنهم.

طاقات مهدورة ومجتمع محروم منهم

ورغم قسوة الحياة، إلا أن نسب الجريمة بين البدون تبقى منخفضة. فهم يعيشون على أمل ضئيل في تسوية أوضاعهم، ويتجنبون أي مشكلة قد تؤثر على هذا الأمل. هؤلاء يُشكّلون طاقات بشرية يمكن أن تُسهم في التنمية الوطنية والاقتصاد، لكنهم يُهمّشون تمامًا في السياسات العامة.

والمفارقة المؤلمة أن بعض حكومات الخليج، وكذلك بعض الشخصيات الدينية، يرسلون الصدقات إلى دول في أفريقيا وآسيا، بينما البدون - وهم أولى الناس بها - يُتركون في العراء داخل حدود الوطن، يعانون التهميش بصمت. الإعلام الرسمي لا يتناول قضيتهم، ويكاد التعتيم يكون كاملاً، باستثناء الكويت، التي تُناقش القضية أحيانًا في البرلمان أو الإعلام المحلي.


الشريعة الإسلامية: عدالة شاملة ورفض للظلم

الإسلام دين العدل، وجاء بتحريم الظلم بكل أشكاله. قال الله تعالى:

{ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]

وقال النبي ﷺ:

"اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" [رواه مسلم]

ترك الإنسان دون هوية، ولا تعليم، ولا علاج، ولا أمن قانوني، هو من الظلم الصريح، ويتناقض مع مقاصد الشريعة الخمسة: حفظ النفس، والعقل، والنسل، والمال، والدين. وقد حمّل الشرع ولي الأمر مسؤولية رفع الظلم وتحقيق العدالة بين جميع من يعيشون في دولته، مسلمهم وغير مسلمهم.


القانون الدولي: لكل إنسان حق في الاعتراف القانوني

القوانين الدولية واضحة في إقرار حقوق عديمي الجنسية. من أبرزها:

  • العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966):

    • المادة (16): "لكل إنسان الحق في أن يُعترف له بالشخصية القانونية."

    • المادة (26): "الناس جميعًا سواء أمام القانون، ويحق لهم التمتع بالحماية القانونية دون تمييز."

  • اتفاقية 1954 بشأن وضع الأشخاص عديمي الجنسية:
    تُلزم الدول بتوفير:

    • التعليم الأساسي،

    • الرعاية الصحية،

    • الحق في العمل،

    • والحماية القانونية.

كما تنص على ضرورة العمل على منح الجنسية أو تسوية الوضع القانوني لعديمي الجنسية، وخاصة من وُلدوا على أراضي الدولة المعنية.


أمثلة من الدول المتقدمة: عدالة وكرامة

  • الولايات المتحدة وكندا: يُمنح المولود على أراضيهما الجنسية تلقائيًا وفق مبدأ الحق في الأرض (Jus Soli).

  • فرنسا وألمانيا: تمنح الجنسية للأطفال المولودين لأبوين مقيمين بعد فترة إقامة محددة، غالبًا من 5 إلى 8 سنوات، خاصة إذا التحق الطفل بالمدارس.

  • السويد وهولندا: توفران حماية كاملة وعدالة اجتماعية للاجئين وعديمي الجنسية، وتسعيان لحل قضاياهم بشكل ممنهج من خلال برامج اندماج وإقامة دائمة ثم تجنيس.

  • البرازيل والمكسيك: تُمنح الجنسية تلقائيًا لمن وُلد على أراضيها، بغض النظر عن جنسية الوالدين.


تجنيس البدون: ضرورة وطنية وإنسانية

في بلدان مثل السعودية والبحرين، حيث الكثافة السكانية منخفضة، فإن تجنيس البدون ليس فقط مطلبًا إنسانيًا، بل خيارًا استراتيجيًا لتعزيز رأس المال البشري. وهناك حاجة لسياسة واضحة وعادلة لمعالجة أوضاعهم، على غرار ما قامت به دول أخرى.

روايات الحكومة عن خلفياتهم وروايات البدون عن معاناتهم قد تختلف، لكن الحقيقة الثابتة هي أنهم بشر، وحرمانهم من حقوقهم لا يمكن تبريره بأي ذريعة. والمماطلة في الحل تسهم في تفاقم الأوضاع وتهديد الاستقرار الاجتماعي.


دعوة للإصلاح والاعتراف

لقد آن الأوان للاعتراف بمعاناتهم، ومعالجة هذا الملف المؤلم وفق المبادئ الإسلامية والمواثيق الدولية ومقاصد الدولة الحديثة. يجب توفر إرادة سياسية صادقة وواعية، ووقف هذا الشكل من "الموت البطيء" الذي يعيشه البدون.

البدون هم أبناء الأرض التي وُلدوا ونشأوا عليها، والتمييز ضدهم لا يُرضي الله، ولا رسوله ﷺ، ولا أي قيمة إنسانية. وقد قال النبي ﷺ:

"كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" [متفق عليه]
وسيسأل الله كل حاكم ومُسؤول عن هؤلاء، ولن يكون في الظلم يومًا أي نجاة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحكومة السعودية تقتل صحفيا آخر: الصحفي تركي الجاسر

سيرة المحامي إسحاق الجيزاني - مع بعض الذكريات

أسباب إنقلاب الأنظمة العربية على جماعة الإخوان المسلمين